فصل: تتمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تقريب التدمرية **


 فصل‏:‏ القاعدة الثانية

ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم

وجب علينا الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أم لم نعرفه

لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏136‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 170‏]‏‏.‏

ولأن خبر الله تعالى صادر عن علم تام، فهو أعلم بنفسه وبغيره كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 140‏]‏ ‏.‏

ولأن خبر الله تعالى أصدق الأخبار كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 87‏]‏‏.‏

ولأن كلام الله تعالى أفصح الكلام، وأبلغه، وأبينه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ متشابهاً‏:‏ يشبه بعضه بعضاً في الكمال والبيان‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193-195‏]‏‏.‏

ولأن الله تعالى يريد بما أنزل إلى عباده من الوحي أن يهتدوا ولا يضلوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏

وهكذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم صادر عن علم فإنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأسمائه وصفاته وأحكامه‏.‏

وخبره أصدق أخبار البشر، وكلامه أفصح كلام البشر، وقصده أفضل مقصود البشر، فهو أنصح الخلق للخلق‏.‏

فقد اجتمع في خبر الله تعالى وخبر رسوله كمال العلم، وكمال الصدق وكمال البيان، وكمال القصد والإرادة، وهذه هي مقومات قبول الخبر؛ ولهذا لو صدر الخبر عن جاهل أو كاذب، أو عيي، أو سيئ قصد لم يكن مقبولاً لفقد مقومات القبول أو أحدها‏.‏

فإذا كانت مقومات قبول الخبر تامة على أكمل وجه في خبر الله ورسوله وجب الإيمان به وقبوله سواء كان نفياً أم إثباتاً، ولم يبق عذر لمعتذر في رده، أو تحريفه، أو الشك في مدلوله، لاسيما في أسماء الله تعالى وصفاته‏.‏

وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها وجب قبوله، وعامة هذا الباب ‏"‏باب الأسماء والصفات‏"‏ منصوص عليه في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة‏.‏

وأما ما تنازع فيه المتأخرون مما ليس في الكتاب والسنة ولا عند سلف الأمة فليس على أحد بل وليس لأحد أن يثبت لفظه أو ينفيه لعدم ورود السمع به، وليس له أن يقبل معناه أو يرده حتى يعلم المراد منه‏.‏ فإن كان حقاً وجب قبوله، وإن كان باطلاً وجب رده‏.‏

ولذلك أمثلة منها‏:‏

المثال الأول‏:‏ الجهة‏:‏ أي لو قال قائل‏:‏ إن الله في جهة، أو هل لله جهة‏؟‏

فيقال له‏:‏ لفظ ‏"‏الجهة‏"‏ ليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه، فليس فيهما أنه في جهة، أو له جهة، ولا أنه ليس في جهة، أو ليس له جهة، وفي النصوص ما يغني عنه كالعلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وصعود الأشياء إليه ونزولها منه‏.‏

وقد اضطرب المتأخرون في إثباته ونفيه، فإذا أجريناه على القاعدة قلنا‏:‏ أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود ذلك، وأما المعنى فنري ماذا يراد بالجهة‏:‏ أيراد بالجهة شيء مخلوق محيط بالله عز وجل، فهذا معنى باطل لا يليق بالله سبحانه، فإن الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته، فقد وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، ولا يمكن أن يكون داخل شيء من مخلوقاته‏.‏

أم يراد بالجهة ما فوق العالم، فهذا حق ثابت لله عز وجل، فإن الله تعالى فوق خلقه عال عليهم، كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجارية كانت له‏:‏ ‏(‏أين الله‏؟‏ قالت‏:‏ في السماء‏.‏ قال‏:‏ من أنا‏؟‏ قالت‏:‏ أنت رسول الله‏.‏ قال‏:‏ أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ ‏(1)‏‏.‏

المثال الثاني‏:‏ الحيز أو المتحيز‏:‏

فإذا قال قائل‏:‏ هل نصف الله تعالى بأنه متحيز أو في حيز‏؟‏

قلنا‏:‏ لفظ ‏"‏التحيز‏"‏ أو ‏"‏الحيز‏"‏ ليس في الكتاب والسنة ثابتة ولا نفيه عن الله تعالى، فليس فيهما أنه في حيز، أو متحيز، ولا أنه ليس كذلك، وفي النصوص ما يغني عنه مثل الكبير المتعال‏.‏

وقد اضطرب المتأخرون في إثبات ذلك لله تعالى أو نفيه عنه، فإذا أجريناه على القاعدة قلنا‏:‏ أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود السمع به، وأما المعنى فينظر ماذا يراد بالحيز أو المتحيز‏؟‏ أيراد به أن الله تعالى تحوزه المخلوقات وتحيط به، فهذا معنى باطل منفي عن الله تعالى لا يليق به، فإن الله أكبر وأعظم وأجل من أن تحيط به المخلوقات وتحوزه كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه‏؟‏‏!‏ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين ملوك الأرض‏؟‏ ‏)(2)‏‏.‏ وقال ابن عباس – رضي الله عنهما -‏:‏ ‏"‏ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم‏"‏‏.‏

أم يراد بالحيز أو المتحيز‏:‏ أن الله منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالاً فيها، ولا هي حالة فيه، فهذا حق ثابت لله عز وجل، كما قال أئمة أهل السنة‏:‏ هو فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه‏.‏

 تنبيه

جاء في القاعدة ‏"‏أنه يجب علينا الإيمان بما أخبر الله به ورسوله سواء عرفنا معناه أم لا‏"‏ لكن ليعلم أنه ليس في كلام الله ورسوله شيء لا يعرف معناه جميع الأمة، بل لابد أن يكون معروفاً لجميع الأمة أو بعضها؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏

ولأنه لو كان فيه ما لا يعلم معناه أحد لكان بعض الشريعة مجهولاً للأمة، ولكن المعرفة والخفاء أمران نسبيان، فقد يكون معروفاً لشخص ما كان خفياً على غيره، إما لنقص في علمه، أو قصور في فهمه، أو تقصير في طلبه، أو سوء في قصده‏.‏

 فصل‏:‏ القاعدة الثالثة

في إجراء النصوص على ظاهرها

ظاهر النصوص ما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحتف بها من القرآن‏.‏

والواجب في النصوص إجراؤها على ظاهرها بدون تحريف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192 - 195‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏لأعراف‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فإذا كان الله تعالى أنزله باللسان العربي من أجل عقله وفهمه، وأمرنا باتباعه، وجب علينا إجراؤه على ظاهره بمقتضى ذلك اللسان العربي، إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية‏.‏

ولا فرق في هذا بين نصوص الصفات وغيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الصفات أولى وأظهر؛ لأن مدلولها توقيفي محض لا مجال للعقول في تفاصيله‏.‏

فإن قال قائل في نصوص الصفات‏:‏ لا يجوز إجراؤها على ظاهرها لأن ظاهرها غير مراد‏.‏

فجوابه أن يقال‏:‏ ماذا تريد بالظاهر‏؟‏ أتريد ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل، فهذا الظاهر مراد لله ورسوله قطعاً، وواجب على العباد قبوله، والإيمان به شرعاً؛ لأنه حق ولا يمكن أن يخاطب الله عباده بما يريد منهم خلاف ظاهره بدون بيان كيف، وقد قال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ ويقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ومن خاطب غيره بما يريد منه خلاف ظاهره بدون بيان فإنه لم يبين له ولم يهده‏.‏

أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل‏؟‏ فهذا غير مراد لكنه ليس ظاهر نصوص الكتاب والسنة؛ لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر وباطل بالنص والإجماع، ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفراً وباطلاً، ولا يرتضي ذلك أحد من المسلمين‏.‏

وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله عز وجل من غير تحريف، وأن ظاهرها لا يقتضي تمثيل الخالق بالمخلوق، فاتفقوا على أن لله تعالى حياة، وعلماً، وقدرة، وسمعاً، وبصراً، حقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه حقيقة، وأنه يحب ويرضى، ويكره ويغضب حقيقة، وأن له وجهاً ويدين حقيقة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ‏{‏وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ ‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ‏{‏وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

فأجروا هذه النصوص وغيرها من نصوص الصفات على ظاهرها وقالوا‏:‏ إنه مراد على الوجه اللائق بالله تعالى فلا تحريف ولا تمثيل‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أن من صفاتنا ما هو معان وأعراض قائمة بنا كالحياة والعلم والقدرة، ومنها ما هو أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا كالوجه واليدين‏.‏ ومن المعلوم أن الله وصف نفسه بأنه حي، عليم، قدير، ولم يقل المسلمون إن المفهوم من حياته وعلمه وقدرته كالمفهوم من حياتنا وعلمنا وقدرتنا، فكذلك لما وصف نفسه بأن له وجهاً ويدين لم يكن المفهوم من وجهه ويديه كالمفهوم من وجوهنا وأيدينا‏.‏ وإنما قال المسلمون إن المفهوم من صفات الله في هذا وهذا لا يماثل المفهوم منها في صفاتنا، بل كل صفة تناسب الموصوف وتليق به، فلما كانت ذات الخالق لا تماثل ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تماثل صفات المخلوقين، وقد سبق أن القول في الصفات كالقول في الذات‏.‏

فتبين بذلك أن من قال‏:‏ إن ظاهر نصوص الصفات غير مراد فقد أخطأ على كل تقدير، لأنه إن فهم من ظاهرها معنى فاسداً وهو التمثيل، فقد أخطأ في فهمه وأصاب في قوله ‏"‏غير مراد‏"‏، وإن فهم من ظاهرها معنى صحيحاً وهو المعنى اللائق بالله، فقد أصاب في فهمه وأخطأ في قوله ‏"‏غير مراد‏"‏ فهو إن أصاب في معنى ظاهرها أخطأ في نفي كونه مراداً، وإن أخطأ في معنى ظاهرها أصاب في نفي كونه مراداً، فيكون قوله خطأ على كل تقدير‏.‏

والصواب الذي لا خطأ فيه أن ظاهرها مراد، وأنه ليس إلا معنى يليق بالله‏.‏

 فصل

والذين يجعلون ظاهر النصوص معنى فاسداً فينكرونه يكون خطؤهم على وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن يفسروا النص بمعنى فاسد لا يدل عليه اللفظ فينكرونه لذلك، ويقولون إن ظاهره غير مراد‏.‏

مثال ذلك‏:‏ قوله تعالى في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني‏)‏‏.‏ الحديث رواه مسلم‏.‏

قالوا‏:‏ فظاهر الحديث أن الله يمرض، ويجوع، ويعطش، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

فنقول‏:‏ لو أعطيتم النص حقه لتبين لكم أن هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر اللفظ، لأن سياق الحديث يمنع ذلك فقد جاء مفسراً بقول الله تعالى في الحديث نفسه‏:‏ ‏(‏أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، واستسقاك عبدي فلان فلم تسقه‏)‏ ‏(3)‏‏.‏ وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض، ولم يجع، ولم يعطش، وإنما حصل المرض والجوع والعطش من عبد من عباده‏.‏

ومثال آخر‏:‏ قوله تعالى عن سفينة نوح‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ فظاهر الآية أن السفينة تجري في عين الله، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

فنقول‏:‏ دعواكم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في عين الله سبحانه مردودة من جهة التركيب اللفظي ومن جهة المعنى أيضاً‏.‏

أما التركيب اللفظي‏:‏ فإنه إذا قال القائل‏:‏ ‏"‏فلان يسير بعيني‏"‏ لم يفهم أحد من هذا التركيب أنه يسير داخل عينيه، ولو أدعى مدع أن هذا ظاهر لفظه لضحك منه السفهاء فضلاً عن العقلاء، وإنما يفهم منه أن عينيه تصحبه بالنظر والرعاية، لأن الباء هنا للمصاحبة وليست للظرفية‏.‏

وأما المعنى‏:‏ فإن من المعلوم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان في الأرض، وأنه صنع السفينة في الأرض، وجرت على الماء في الأرض كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَوَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏10 - 14‏]‏ ولا يمكن لأحد أن يدعي أن ظاهر اللفظ أن السفينة تجري في عين الله عز وجل، لأن ذلك ممتنع غاية الامتناع في حق الله تعالى، ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره، وعلم أنه مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس حالاً في شيء من مخلوقاته، ولا شيء من مخلوقاته حالاً فيه أن يفهم من هذا اللفظ هذا المعنى الفاسد‏.‏

وعلى هذا فمعنى الآية الذي هو ظاهر اللفظ أن السفينة تجري والله تعالى يكلؤها بعينه‏.‏

ومثال ثالث‏:‏ في الأثر‏:‏ ‏"‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ فظاهر الأثر أن الحجر نفسه يمين الله في الأرض، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

فنقول‏:‏ أولاً‏:‏ هذا الأثر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت والمشهور أنه عن ابن عباس‏.‏ قلت‏:‏ قال ابن الجوزي‏:‏ هذا حديث لا يصح، وقال ابن العربي‏:‏ حديث باطل فلا يلتفت إليه‏.‏ أهـ‏.‏

ثانياً‏:‏ أنه على تقدير صحته صريح في أن الحجر الأسود ليس نفس يمين الله لأنه قال‏:‏ ‏"‏يمين الله في الأرض‏"‏ فقيده في الأرض ولم يطلق، وحكم اللفظ المقيد يخالف المطلق، ومعلوم أن الله تعالى في السماء، ولأنه قال‏:‏ ‏"‏فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏"‏ ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، فالأثر ظاهر في أن مستلم الحجر ليس مصافحاً لله، وليس الحجر نفس يمين الله، فكيف يجعل ظاهره كفراً يحتاج إلى تأويل‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يفسروا اللفظ بمعنى صحيح موافق لظاهره، لكن يردونه لاعتقادهم أنه باطل وليس بباطل‏.‏

مثال ذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ فظاهر الآية أن الله علا على العرش، والعرش محدود فيلزم أن يكون الله سبحانه محدوداً، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

فنقول‏:‏ إن علو الله تعالى على عرشه – وإن كان العرش محدوداً – لا يستلزم معنى فاسداً، فإن الله تعالى قد علا على عرشه علواً يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل علو المخلوق على المخلوق، ولا يلزم منه أن يكون الله محدوداً، وهو علو يختص بالعرش، والعرش أعلى المخلوقات فيكون الله تعالى عالياً على كل شيء وهذا من كماله وكمال صفاته، فكيف يكون معنى فاسداً غير مراد‏؟‏‏!‏

مثال آخر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ فظاهر الآية أن الله تعالى يدين حقيقتين وهما جارحة، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

فنقول‏:‏ إن ثبوت اليدين الحقيقيتين لله عز وجل لا يستلزم معنى فاسداً، فإن لله تعالى يدين حقيقيتين تلقيان بجلاله وعظمته، وبهما يأخذ ويقبض، ولا تماثلان أيدي المخلوقين، وهذا من كماله وكمال صفاته، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل‏)‏ ‏(4)‏‏.‏ فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال إنه غير مراد‏؟‏‏!‏

- وقد يجتمع الخطأ من الوجهين في مثال واحد مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء‏)‏ ‏(5)‏‏.‏

فقالوا على الوجه الأول‏:‏ ظاهر الحديث أن قلوب بني آدم بين أصابع الرحمن فيلزم منه المباشرة والمماسة، وأن تكون أصابع الله سبحانه داخل أجوافنا، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

وقالوا على الوجه الثاني‏:‏ ظاهر الحديث أن لله أصابع حقيقية والأصابع جوارح، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد‏.‏

فنقول على الوجه الأول‏:‏ إن كون قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة لا يلزم منه المباشرة والمماسة، ولا أن تكون أصابع الله عز وجل داخل أجوافنا، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ فإن السحاب لا يباشر السماء ولا الأرض ولا يماسهما‏.‏

ويقال‏:‏ سترة المصلي بين يديه وليست مباشرة له ولا مماسة له‏.‏

فإذا كانت البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات فكيف بالبينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو بكل شيء محيط، وقد دل السمع والعقل على أن الله تعالى بائن من خلقه، ولا يحل في شيء من خلقه، ولا يحل فيه شيء من خلقه، وأجمع السلف على ذلك‏.‏

ونقول على الوجه الثاني‏:‏ إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى لا يستلزم معنى فاسداً، وحينئذ يكون مراداً قطعاً، فإن لله تعالى أصابع حقيقية تليق بالله عز وجل، ولا تماثل أصابع المخلوقين، وفي صحيح البخاري ومسلم (6)‏ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول‏:‏ أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ ‏)‏‏.‏ هذا لفظ البخاري في تفسير سورة الزمر‏.‏ فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال إنه غير مراد‏؟‏‏!‏

ويشبه هذا الخطأ أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏ 75‏]‏‏.‏ إنه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏يّـس‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فيكون المراد باليد نفس الفاعل في الآيتين، وهذا غلط فإن الفرق بينهما ثابت من وجوه ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ من حيث الصيغة، فإن الله قال في الآية الأولى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ‏}‏ وهي تخالف الصيغة في الآية الثانية، فإن الله قال فيها‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ولو كانت الأولى نظيرة للثانية لكان لفظها‏:‏ ‏"‏لما خلقت يداي‏"‏ فيضاف الخلق إليهما، كما أضيف العمل إليهما في الثانية‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى أضاف في الآية الفعل إلى نفسه معدى بالباء إلى اليدين، فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيديه‏.‏ ألا ترى إلى قول القائل‏:‏ كتبت بالقلم، فإن الكاتب هو فاعل الكتابة، ومدخول الباء وهو القلم حصلت به الكتابة‏.‏

وأما الآية الثانية‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ فأضاف الفعل فيها إلى الأيدي المضافة إليه، وإضافة الفعل إلى الأيدي كإضافته إلى النفس فكأنه قال‏:‏ مما عملنا‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والمراد بما كسبتم بدليل قوله في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 51‏]‏‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن الله تعالى أضاف الفعل في الآية الأولى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ‏}‏ معدى بالباء إلى يدين اثنتين، ولا يمكن أن يراد بهما نفسه لدلالة التثنية على عدد محصور باثنين، والرب – جل وعلا – إله واحد، فلا يمكن أن يذكر نفسه بصيغة التثنية لدلالة ذلك على صريح العدد وحصره، ولكنه تعالى يذكر نفسه تارة بصيغة الإفراد للتوحيد، وتارة يذكر نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، وربما يدل الجمع على معاني أسمائه‏.‏

أما في الآية الثانية فأضاف الفعل إلى الأيدي المضافة إليه مجموعة للتعظيم، فصار المراد بها نفسه المقدسة جل وعلا‏.‏

وبهذا تبين الفرق بين قوله ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏، وأنها ليست نظيراً لها‏.‏ وتبين أيضاً أن ظاهر النصوص في الصفات حق ثابت مراد لله تعالى على الوجه اللائق به، وأنه لا يستلزم نقصاً في حقه ولا تمثيلاً له بخلقه‏.‏

لكن لو كنا نخاطب شخصاً لا يفهم من ظاهرها إلا ما يقتضي التمثيل فإننا نقول له‏:‏ إن هذا الظاهر الذي فهمته غير مراد، ثم نبين له أن هذا ليس ظاهر النصوص؛ لأنه باطل لا يقتضيه السياق كما سبق بيانه‏.‏

 القاعدة الرابعة

توهم بعض الناس في نصوص الصفات والمحاذير المترتبة على ذلك

أعلم أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات التي دلت عليها النصوص، أو كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الوهم الذي توهمه؛ فيقع في أربعة محاذير‏:‏

الأول‏:‏ أنه فهم من النصوص صفات تماثل صفات المخلوقين، وظن أن ذلك هو مدلول النص، وهذا فهم خاطئ، فإن الصفة التي دلت عليها النصوص تناسب موصوفها وتليق به‏.‏

وتمثيل الخالق بالمخلوق كفر وضلال؛ لأنه تكذيب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏ ولا يمكن أن يكون ظاهر النصوص الكفر والضلال؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جنى على النصوص؛ حيث نفى ما تدل عليه من المعاني الإلهية، ثم أثبت لها معاني من عنده لا يدل عليها ظاهر اللفظ، فكان جانياً على النصوص من وجهين‏.‏

الثالث‏:‏ أنه نفى ما دلت عليه النصوص من الصفات بغير علم فيكون بذلك قائلاً على الله ما لا يعلم، وهذا محرم بالنص والإجماع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ أنه إذا نفى عن الله عز وجل ما تقتضيه النصوص من صفات الكمال لزم أن يكون الله – سبحانه – متصفاً بنقيضها من صفات النقص؛ وذلك لأنه ما من موجود إلا وهو متصف بصفة، ولا يمكن وجود ذات مجردة عن الصفات، فإذا انتفت صفة الكمال عنها، لزم اتصافها بصفات النقص‏.‏

وحينئذٍ يكون من نفى عن الله تعالى ما تقتضيه النصوص من صفات الكمال متعدياً في حق الله تعالى، حيث جمع بين نفي صفات الكمال عنه، وتمثيله بالمنقوصات والمعدومات، بل قد يرتقي به الغلو في النفي إلى تمثيله بالممتنعات المستحيلات‏.‏

ويكون أيضاً جانياً على النصوص حيث عطلها عما دلت عليه من صفات الكمال لله تعالى، وأثبت لها معاني من عنده لا يدل عليها ظاهرها، فيجمع بين النفي والتمثيل في صفات الله، وبين التحريف والتعطيل في نصوص الكتاب والسنة، ويكون ملحداً في أسماء الله وآياته، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏لأعراف‏:‏ 180‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏40‏]‏‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه استوى على العرش فيتوهم واهم أنه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، وأنه محتاج إلى العرش كحاجة الإنسان للأنعام والفلك، فلو عثرت الدابة لخر المستوي عليها، ولو انخرقت السفينة لغرق المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب على قياسه الفاسد‏.‏ فينفي بذلك حقيقة الاستواء، ومنشأ هذا الوهم الذي توهمه في استواء الله على عرشه ظنه أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وهذا ظن فاسد؛ لأن الله تعالى أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، لم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، فتعين أن يكون استواءً خاصاً يليق به كسائر صفاته وأفعاله لا يماثل استواء المخلوقين، كما أن الله نفسه لا يماثل المخلوقين‏.‏

ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ هل يتوهم أحد أن بناءه إياها كبناء المخلوق سقف البيت، بحيث يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن، وجبل طين ونحو ذلك، فإذا كان لا يحتاج إلى ذلك في هذا الفعل من أفعاله، لزم أن لا يكون محتاجاً إلى العرش في استوائه عليه، بل هو سبحانه الغني عن العرش وغيره‏.‏

فتجد هذا نفي حقيقة الاستواء الذي هو ظاهر النصوص وقع في تلك المحاذير الأربعة‏:‏

1- فقد مثل ما فهمه من استواء الله على عرشه باستواء المخلوقين‏.‏

2- وعطل النصوص عما دلت عليه من صفة الاستواء اللائق بالله، ثم حرفها إلى معان لا تدل عليها‏.‏

3- وكان نفيه لذلك وتعطيله بلا علم، بل عن جهل وظن فاسد‏.‏

4- ولزم من نفيه لصفة الكمال التي تضمنها الاستواء ثبوت صفة نقص بفوات هذا الكمال‏.‏

مثال آخر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏16‏]‏‏.‏ فيتوهم واهم أن الله تعالى داخل السماء، وأن السماء تحيط به كما لو قلنا‏:‏ فلان في الحجرة فإن الحجرة محيطة به، فينفي بناء على هذا الوهم كون الله تعالى في السماء ويقول‏:‏ إن الذي في السماء ملكه وسلطانه ونحو ذلك‏.‏

ومنشأ هذا الوهم ظنه أن ‏(‏في‏)‏ التي للظرفية تكون بمعنى واحد في جميع مواردها، وهذا ظن فاسد، فإن ‏(‏في‏)‏ يختلق معناه بحسب متعلقها فإنه يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق المكتوب فيه، فلو قيل‏:‏ هل العرش في السماء أو في الأرض‏؟‏ لقيل‏:‏ في السماء مع أن العرش أكبر من السماء كثيراً‏.‏

وعلى هذا فيخرج قوله‏:‏ ‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ‏}‏ على أحد وجهين‏:‏

أما أن تكون السماء بمعنى العلو، فإن السماء يراد بها العلو كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏‏.‏ والمطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض لا من السماء نفسها، فيكون معنى كونه تعالى في السماء أنه في العلو المطلق فوق جميع المخلوقات، وليس هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء سوى الله تعالى‏.‏

وإما أن تكون ‏(‏في‏)‏ بمعنى ‏(‏على‏)‏ كما جاءت بمعناها في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏‏.‏ أي على الأرض، وقوله عن فرعون‏:‏ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوع‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏ 71‏]‏‏.‏ أي على جذوع النخل، وعلى هذا فيكون معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏‏.‏ أي على السماء أي فوقه، والله تعالى فوق السموات وفوق كل شيء‏.‏

فتجد هذا الذي نفى أن يكون الله في السماء حقيقة وقع في المحاذير الأربعة‏:‏

1- فقد مثل ما فهمه من كون الله تعالى في السماء يكون المخلوق في الحجرة ونحو ذلك‏.‏

2- وعطل النصوص عما دلت عليه من علو الله في السماء، ثم حرفها إلى معان لا تدل عليها‏.‏

3- وكان نفيه وتعطيله بلا علم، بل عن جهل وظن فاسد‏.‏

4- ولزم من نفيه لصفة الكمال التي تضمنها كونه في السماء ثبوت صفة النقص؛ لأن نفيه لصفة العلو يستلزم أحد أمرين ولابد‏:‏

فإما أن يكون الله تعالى في كل مكان بذاته، والقول بهذا في غاية الضلال والكفر، لأنه يستلزم إما تعدد الخالق، وإما تبعضه، ويستلزم كذلك أن يكون في محلات القذر والأذى التي يتنزه عنها كل ذي مروءة، فضلاً عن الخالق‏.‏

وإما أن يكون الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا متصلاً ولا منفصلاً، ولا مبايناً ولا محايثاً، ونحو ذلك من العبارات المتضمنة للتعطيل المحض، وحقيقة هذا نفي وجود الخالق جل وعلا‏.‏

 القاعدة الخامسة في علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه

ما أخبرنا الله به عن نفسه فهو معلوم لنا من جهة، ومجهول من جهة‏.‏ معلوم لنا من جهة المعنى، ومجهول لنا من جهة الكيفية‏.‏

أما كونه معلوماً لنا من جهة المعنى فثابت بدلالة السمع، والعقل‏.‏

فمن أدلة السمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏24‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خيركم من تعلم القرآن وعلمه‏)‏ ‏(7)‏‏.‏

فحث الله تعالى على تدبر القرآن كله ولم يستثن شيئاً منه، ووبخ من لم يتدبره، وبين أن الحكمة من إنزاله أن يتدبره الذين أنزل إليهم ويتعظ به أصحاب العقول، ولولا أن له معنى يعلم بالتدبر لكان الحث على تدبره من لغو القول، ولكان الاشتغال بتدبره من إضاعة الوقت، ولفاتت الحكمة من إنزاله، ولما حسن التوبيخ على تركه‏.‏

والحث على تدبر القرآن شامل لتدبر جميع آياته الخبرية العلمية والحكمية العملية، فكما أننا مأمورون بتدبر آيات الأحكام لفهم معناها والعمل بمقتضاها، إذ لا يمكن العمل بها بدون فهم معناها، فكذلك نحن مأمورون بتدبر آيات الأخبار لفهم معناها، واعتقاد مقتضاها، والثناء على الله تعالى بها، إذ لا يمكن اعتقاد ما لم نفهمه، أو الثناء على الله تعالى به‏.‏

وأما دلالة العقل على فهم معاني ما أخبر الله تعالى به عن نفسه فمن وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ما أخبر الله به عن نفسه أعلى مراتب الإخبار وأغلى مطالب الأخيار، فمن المحال أن يكون ما أخبر الله به عن نفسه مجهول المعنى، وما أخبر به عن فرعون، وهامان، وقارون، وعن قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم، معلوم المعنى من أن ضرورة الخلق لفهم معنى ما أخبر الله به عن نفسه أعظم وأشد‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه من المحال أن ينزل الله تعالى على عباده كتاباً يعرفهم به بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، ويصفه بأنه عليِّ حكيم كريم عظيم مجيد مبين بلسان عربي ليعقل ويفهم‏.‏ ثم تكون كلماته في أعظم المطالب غير معلومة المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يعلمها الناس إلا أماني، ولا يخرجون بعلمها عن صفة الأمية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما الجواب عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، فإن هذا يقتضي أن في القرآن آيات متشابهات لا يعلم تأويلهن إلا الله‏؟‏

قلنا‏:‏ الجواب أن للسلف في الوقف في هذه الآية قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ الوقف عند قوله‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏ وهو قول جمهور السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، لا التفسير الذي هو بيان المعنى‏.‏ فتأويل آيات الصفات على هذا هو حقيقة تلك الصفات وكنهها، وهذا من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل ولم يرد بها السمع فلا يعلمها إلا الله‏.‏

الثاني‏:‏ الوصل فلا يقفون على قوله‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏ وهو قول جماعة من السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ التفسير الذي هو بيان المعنى‏.‏ وهذا معلوم للراسخين في العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله‏"‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏"‏عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها‏"‏‏.‏

وبهذا تبين أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم معناه إلا الله تعالى، وإنما تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل، وعلى هذا فلا تعارض مع ما ذكرناه من أنه ليس في القرآن شيء لا يعلم معناه‏.‏

 فصل

وأما كون ما أخبرنا الله به عن نفسه مجهولاً لنا من جهة الكيفية فثابت بدلالة السمع والعقل‏.‏

فأما دلالة السمع فمن وجهين‏:‏

الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏110‏]‏ فإن نفي الإحاطة علماً شامل للإحاطة بذاته وصفاته، فلا يعلم حقيقة ذاته وكنهها إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك صفاته‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله أخبرنا عن ذاته وصفاته، ولم يخبرنا عن كيفيتها، وعقولنا لا تدرك ذلك، فتكون الكيفية مجهولة، لنا، لا يحل لنا أن نتكلم فيها أو نقدرها بأذهاننا لقوله تعلى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏‏.‏

وأما دلالة العقل على ذلك‏:‏ فلأن الشيء لا تدرك كيفيته إلا بمشاهدته، أو بمشاهدة نظير المساوي له، أو الخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية ذات الله تعالى وصفاته، فتكون كيفية ذات الله وصفاته مجهولة لنا‏.‏

وأيضاً فإننا نقول‏:‏ ما هي الكيفية التي تقدرها لذات الله تعالى وصفاته‏؟‏‏!‏ إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك فالله أعظم وأجل من ذلك، وإن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك فستكون كاذباً فيها؛ لأنه ليس لك دليل عليها‏.‏

 تتمة

بهذا التقرير الذي تبين به أنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله – يتبين بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني آيات الصفات، ويدعون أن هذا هو مذهب السلف، وقد ضلوا فيما ذهبوا إليه، وكذبوا فيما نسبوه إلى السلف، فإن السلف إنما يفوضون علم الكيفية دون علم المعنى، وقد تواتر القول عنهم بإثبات معاني هذه النصوص إجمالاً أحياناً، وتفصيلاً أحياناً، فمن الإجمال قوله‏:‏ ‏"‏أمروها كما جاءت بلا كيف‏"‏ ومن التفصيل ما سبق عن مالك في الاستواء‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه ‏"‏درء تعارض العقل والنقل‏"‏ المعروف باسم ‏"‏العقل والنقل‏"‏ ‏(‏1/16‏)‏ المطبوع على هامش منهاج السنة ‏(‏1/201‏)‏ تحقيق رشاد سالم‏:‏ ‏"‏وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله‏"‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين الناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع‏:‏ الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد‏"‏‏.‏ أهـ كلامه رحمه الله‏.‏

 فصل في التأويل

التأويل لغة‏:‏ ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ رد الكلام إلى الغاية المرادة منه بشرح معناه أو حصول مقتضاه، ويطلق على ثلاثة معان‏:‏

الأول‏:‏ ‏"‏التفسير‏"‏ وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف‏:‏ ‏{‏نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل‏)‏ ‏(8)‏‏.‏ وسبق قول ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله‏"‏‏.‏ ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين ‏"‏تأويل قوله تعالى‏"‏ أي تفسيره‏.‏

والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم‏.‏

المعنى الثاني‏:‏ مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبراً فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه، وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب‏.‏

مثال الخبر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏‏.‏ أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه قوله تعالى عن يوسف‏:‏ ‏{‏هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏

ومثال الطلب‏:‏ قول عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن‏)‏ ‏(9)‏‏.‏ أي يمتثل ما أمره الله به في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وتقول‏:‏ فلان لا يتعامل بالربا يتأول قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏‏.‏

والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعاً‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل‏.‏ فعلى قراءة الوقف عند قوله‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏‏.‏ يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته؛ لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله عز وجل‏.‏ وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير، لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم فلا يختص علمه بالله تعالى‏.‏

فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها، وهذا هو التأويل المجهول لنا‏.‏ وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ونحو ذلك، ونعلم أن الحياة ليس هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة، وأن القدرة ليس هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر، وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله عز وجل‏.‏

وهذا المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب والسنة وكلام السلف‏.‏

المعنى الثالث للتأويل‏:‏ صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه، وإن شئت فقل‏:‏ صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه، وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهل هو محمود أو مذموم‏؟‏ وهل هو حق أو باطل‏؟‏

والتحقيق‏:‏ أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير؛ لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره، أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم‏.‏

مثال ذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فإن الله تعالى يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فَلا تَسْتَعْجِلُوه‏}‏‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏ فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة، والمراد إذا أردت أن تقرأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ لا إذا فرغ من القراءة‏.‏

وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلاً مذموماً، وجديراً بأن يسمى تحريفاً لا تأويلاً‏.‏

مثال ذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏ فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علواً خاصاً يليق بالله عز وجل، وهذا هو المراد، فتأويله إلى أن معناه استولى وملك تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح‏.‏

 فصل

اعلم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه‏.‏ فالأول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والثاني كقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ والثالث كقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏

فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو‏:‏ الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان والفصاحة والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني وأجلها وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار، وكمال الرشد والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏‏.‏

والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو‏:‏ تشابه القرآن في الكمال والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو‏:‏ الوضوح والظهور بحيث يكون معناه واضحاً بيناً لا يشتبه على أحد، وهذا كثير في الأخبار والأحكام‏.‏

مثاله في الأخبار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ فكل أحد يعرف شهر رمضان، وكل أحد يعرف القرآن‏.‏

ومثاله في الأحكام قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ فكل أحد يعرف والديه، وكل أحد يعرف الإحسان‏.‏

وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو‏:‏ الاشتباه أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم‏.‏

 موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيفية الجمع بينها

موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيف نجمع بينها أن نقول‏:‏ إن وصف القرآن جميعه بالإحكام، ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان والجمع بينهما‏:‏ أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق، فلا يتناقض في أحكامه، ولا يتكاذب في أخباره‏.‏

وأما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلاً؛ لأن كل وصف وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه خفي المعنى، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين‏:‏

فالراسخون في العلم يقولون‏:‏ آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالاً أو تناقضاً، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام‏.‏

وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك فضلوا وأضلوا، وتوهموا بهذا المتشابه ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله‏.‏

مثال الأول ‏(10)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏يّـس‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ونحوهما مما أضاف الله فيه الشيء إلى نفسه بصيغة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد‏.‏

وأما الراسخون في العلم‏:‏ فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ ويقولون للنصراني‏:‏ إن الدعوى التي ادعيت – بما وقع لك من الاشتباه – قد كفرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ أي كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة‏.‏

ومثال الثاني ‏(11)‏‏:‏ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ففي الآيتين موهم تعارض فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضاً وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية‏.‏ فيقول‏:‏ في القرآن تناقض‏.‏

وأما الراسخون في العلم فيقولون‏:‏ لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره‏.‏ والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة، وهذه تكون من الله تعالى ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين‏.‏

ومثال الثالث ‏(12)‏‏:‏ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏ ففي الآية ما يوهم وقوع الشك من النبي صلى الله عليه وسلم مما أنزل إليه فيتبعه من في قلبه زيغ فيدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه ذلك فيطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الراسخون في العلم فيقولون‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شك ولا امتراء فيما أنزل إليه، كيف وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏لأعراف‏:‏ 158‏]‏‏.‏

ويقولون‏:‏ إن مثل هذا التعبير - ‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏ – لا يلزم منه وقوع الشرط، بل ولا إمكانه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ‏}‏ ‏(13)‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏‏.‏ فإن وجود الولد لله عز وجل ممتنع غاية الامتناع كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 92‏]‏‏.‏ فكذلك الشك والامتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه ممتنع غاية الامتناع، ولكن جاءت العبارة بهذه الصيغة الشرطية لتأكيد امتناع الشك والامتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه من الله عز وجل‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابهاً‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الحكمة من ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه من الشاك الجاهل الزائغ، فالصادق في إيمانه الراسخ في عمله الذي يؤمن بالله وكلماته، ويعلم أن كلام الله عز وجل ليس فيه تناقض، ولا اختلاف فيرد ما تشابه منه إلى ما كان محكماً، ليصير كله محكماً‏.‏ وأما من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه، ليضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، فيضل ويضل، ويكون إماماً في الضلال والشقاء فيفتن الناس في دينهم، ويوقعهم في الشك والحيرة، ويفتن بعضهم ببعض ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7-8‏]‏‏.‏

 تتمة

  التشابه الواقع في القرآن نوعان‏:‏ حقيقي ونسبي‏:‏

فالحقيقي‏:‏ ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل‏:‏ حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا – وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار – لا نعلم حقائقها وكنهها كما قال الله تعالى عن نفسه‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وقال عما في اليوم الآخر‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال‏:‏ ‏(‏أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏)‏ ‏(14)‏‏.‏

فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير، ونحو ذلك، ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات ليس مماثلاً في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله‏.‏ كما نعلم أن في الجنة لحماً، ولبناً، وعسلاً، وماء، وخمراً، ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنب ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى‏.‏

والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد‏.‏

وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه‏.‏

وأما النسبي‏:‏ فهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم‏.‏

وهذا النوع يسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه، إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، كيف وقد قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 18-19‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

ولهذا النوع أمثلة كثيرة في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الحكمية، وغالب المسائل التي اختلف الناس فيها أوكلها من هذا النوع‏.‏

فمن أمثلة ذلك في المسائل العلمية الخبرية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏ حيث اشتبه على النفاة أهل التعطيل ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، ظناً منهم أن إثباتها يستلزم مماثلة الله تعالى للمخلوقين؛ فنفوا عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو بعضه، وأعرضوا عن الأدلة السمعية والعقلية الدالة على ثبوت صفات الكمال لله عز وجل، وغفلوا عن كون الاشتراك في أصل المعنى لا يستلزم المماثلة في الحقيقة‏.‏

ثم لو أمعنوا في النظر في هذا المنفي ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ لتبين لهم أنه يدل على ثبوت الصفات لا على انتفائها، لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى، لكن لكماله تعالى لا يماثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولولا ثبوت أصل الصفة لم يكن لنفي المثل فائدة‏.‏

ومن أمثلة ذلك في المسائل العملية الحكمية قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ ‏(15)‏‏.‏ حيث اشتبه على بعض الناس ففهموا منه أنه شامل للكمية والكيفية، وبنوا على ذلك أنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على العدد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به، فلا يزاد في التراويح في رمضان على إحدى عشرة، أو ثلاثة عشرة ركعة، ولكن من تأمل الحديث وجده دالاً على الكيفية فقط دون الكمية، إلا أن تكون الكمية في ضمن الكيفية كعدد الصلاة الواحدة، ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر‏:‏ ما ترى في صلاة الليل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى‏"‏ ‏(16)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ أن السائل قال‏:‏ كيف صلاة الليل‏؟‏ ولو كان عدد قيام الليل محصوراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السائل، ولهذا كان الراجح أن يقتصر في قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاثة عشرة وإن زاد على ذلك فلا بأس‏.‏

وأمثلة ذلك كثيرة، تعلم من كتب الفقه المعنية بذكر الخلاف والترجيح بين الأقوال والله المستعان‏.‏

 القاعدة السادسة في ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفياً وإثباتاً

صفات الله تعالى دائرة بين النفي والإثبات – كما سبق – فلابد من ضابط لهذا وذاك‏.‏

فالضابط في النفي أن ينفى عن الله تعالى‏:‏

أولاً‏:‏ كل صفة عيب كالعمى والصمم والخرس والنوم والموت ونحو ذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ كل نقص في كماله كنقص حياته أو علمه أو قدرته أو عزته أو حكمته أو نحو ذلك‏.‏

ثالثاً‏:‏ مماثلته للمخلوقين كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق، أو استواؤه على عرشه كاستواء المخلوق ونحو ذلك‏.‏

فمن أدلة انتفاء الأول عنه‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏‏.‏ فإن ثبوت المثل الأعلى له وهو الوصف الأعلى يستلزم انتفاء كل صفة عيب‏.‏

ومن أدلة انتفاء الثاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ‏}‏ ‏[‏قّ‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ومن أدلة انتفاء الثالث‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وبهذا علم أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين‏:‏

الأول‏:‏ أنه إن أريد بالنفي نفي التشابه المطلق – أي نفي التساوي من كل وجه بين الخالق والمخلوق – فإن هذا لغو من القول إذ لم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه، بحيث يثبت لأحدهما من الجائز والممتنع والواجب ما يثبت للآخر، ولا يمكن أن يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه مما يعلم بضرورة العقل وبداهة الحس انتفاؤه، وإذا كان كذلك لم يكن لنفيه فائدة‏.‏

وإن أريد بالنفي مطلق التشابه – أي نفي التشابه من بعض الوجوه – فهذا النفي لا يصح إذ ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه، وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر، فيشتبهان من وجه، ويفترقان من وجه‏.‏

فالحياة ‏"‏مثلاً‏"‏ وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏‏.‏ لكن حياة الخالق تختص به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

فالقدر المشترك ‏"‏وهو مطلق الحياة‏"‏ كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك، وحينئذ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي، وإنما المحذور أن يجعل أحدهما مشاركاً للآخر فيما يختص به‏.‏

ثم إن إرادة ذلك – أعني نفي مطلق التشابه – تستلزم التعطيل المحض، لأنه إذا نفي عن الله تعالى صفة الوجود ‏"‏مثلاً‏"‏ بحجة أن للمخلوق صفة وجود فإثباتها للخالق يستلزم التشبيه على هذا التقدير، لزم على نفيه أن يكون الخالق معدوماً، ثم يلزمه على هذا اللازم الفاسد أن يقع في تشبيه آخر وهو تشبيه الخالق بالمعدوم لاشتراكهما في صفة العدم فيلزمه على قاعدته – تشبيه بالمعدوم – فإن نفى عنه الوجود والعدم وقع في تشبيه ثالث أشد وهو تشبيه بالممتنعات؛ لأن الوجود والعدم نقيضان يمتنع انتفاؤهما كما يمتنع اجتماعهما‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن الشيء إذا شارك غيره من وجه جاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على الآخر، وامتنع عليه ما يمتنع، ووجب له ما يجب‏!‏‏!‏

فالجواب من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ المنع، فيقال لا يلزم من اشتراك الخالق والمخلوق في أصل الصفة أن يتماثلا فيه فيما يجوز ويمتنع ويجب، لأن مطلق المشاركة لا يستلزم المماثلة‏.‏

الثاني‏:‏ التسليم، فيقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعاً، فإذا اشتركا في صفة الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، واختص كل موصوف بما يستحقه ويليق به كان اشتراكهما في ذلك أمراً ممكناً لا محذور فيه أصلاً، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فإن كل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفاه لزمه تعطيل وجود كل موجود، لأن نفي القدر المشترك يلزم منه التعطيل العام‏.‏

وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً وتدبره زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام‏.‏

 فصل

الوجه الثاني‏:‏ مما يدل على أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه‏:‏ أن الناس اختلفوا في تفسير التشبيه فقد يفسره بعضهم بما لا يراه الآخرون تشبيهاً‏.‏

مثال ذلك مع المعتزلة ومن سلك طريقهم من النفاة‏:‏ أنهم جعلوا من أثبت لله تعالى علماً قديماً، أو قدرة قديمة مشبهاً ممثلاً، لأن القدم أخص وصف الإله عند جمهورهم، فمن أثبت له علماً قديماً أو قدرة قديمة فقد أثبت له مثيلاً‏.‏

والمثبتون يجيبونهم تارة بالمنع، وبالتسليم تارة‏.‏

أما المنع فيقولون‏:‏ ليس القدم أخص وصف الإله، وإنما أخص وصف الإله ما لا يتصف به غيره، مثل‏:‏ كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء قدير، وأنه الإله ونحو ذلك‏.‏ والصفات وإن وصفت بالقدم كما توصف به الذات لا يقتضي ذلك أن تكون إلهاً أو رباً أو نحو ذلك، كما أن النبي – مثلاً – يوصف بالحدوث، وتوصف صفاته بالحدوث، ولا يقتضي ذلك أن تكون صفاته نبياً‏.‏

وعلى هذا فلا يكون إثبات الصفات القديمة لله تعالى تمثيلاً، ولا تشبيهاً‏.‏

وأما التسليم فيقولون‏:‏ نحن وإن سلمنا أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً أو تمثيلاً فإنه لم ينفه عقل ولا سمع، وحينئذ فلا مانع من إثباته‏.‏

فالقرآن إنما نفى مسمى المثل، والكفء، والند ونحو ذلك، والصفة في لغة العرب التي نزل بها القرآن ليست مثل الموصوف، ولا كفؤاً له، ولا نداً فلا تدخل فيما نفاه القرآن‏.‏

فالواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية فقط‏.‏

مثال آخر‏:‏ مع الأشاعرة ونحوهم ممن ينفي علوه على عرشه ونحوه دون صفة الحياة، والعلم، والقدرة ونحوها فيقول‏:‏ إن هذه الصفات قد تقوم بما ليس بجسم بخلاف العلو فإنه لا يقوم إلا بجسم فلو أثبتناه لزم أن يكون جسماً، والأجسام متماثلة فيلزم التشبيه‏.‏

والمثبتون يجيبونهم تارة بمنع المقدمة الأولى وهي قولهم‏:‏ ‏"‏إن العلو لا يقوم إلا بجسم‏"‏ وتارة بمنع المقدمة الثانية وهي قولهم‏:‏ ‏"‏إن الأجسام متماثلة‏"‏ وتارة بمنع المقدمتين، وتارة بالاستفصال، فيقولون‏:‏ إن أردتم بالجسم جسماً مؤلفاً من لحم وعظم وأجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، أو يحتاج إلى مقومات خارجية، فهذا ممتنع بالنسبة إلى الله الغني الحميد، وليس بلازم من إثبات الصفات، وإن أردتم بالجسم ما كان قائماً بنفسه موصوفاً بالصفات اللائقة به، فهذا حق ثابت لله عز وجل ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة‏.‏

وإذا تبين اختلاف الناس في تفسير التشبيه صار الاعتماد على مجرد نفيه باطلاً، لأنه يلزم منه نفي صفات الكمال عن الله تعالى عند من يرى أن إثباتها يستلزم التشبيه‏.‏

وعلى هذا فالضابط الصحيح فيما ينفى عن الله تعالى ما سبق في أول القاعدة‏.‏

 فصل

فإذا تبين أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وأنه طريق فاسد، فإن أفسد منه ما يسلكه بعض الناس حيث يعتمدون فيما ينفى عن الله تعالى على نفي التجسيم، والتحيز ونحو ذلك، فتجدهم إذا أرادوا أن يحتجوا على من وصف الله تعالى النقائص من‏:‏ الحزن، والبكاء، والمرض، والولادة ونحوها يقولون له‏:‏ لو اتصف الله بذلك لكان جسماً، أو متحيزاً، وهذا ممتنع، هذه حجتهم عليه‏.‏

وهذه طريقة فاسدة لا يحصل بها المقصود لوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن لفظ ‏"‏الجسم‏"‏ و ‏"‏الجوهر‏"‏ و ‏"‏التحيز‏"‏ ونحوها عبارات مجملة مشتبهة لا تحق حقاً، ولا تبطل باطلاً، ولذلك لم تذكر فيما وصف الله وسمى به نفسه لا نفياً ولا إثباتاً، لا في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلكه أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هي عبارات مبتدعة أنكرها السلف والأئمة‏.‏

الثاني‏:‏ أو وصف الله تعالى بهذه النقائض أظهر فساداً في العقل والدين من وصفه بالتحيز والتجسيم، فإن كفر من وصفه بهذه النقائص معلوم بالضرورة من الدين، بخلاف التحيز والتجسيم لما فيهما من الاشتباه والخفاء‏.‏

وإذا كان وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فساداً من وصفه بالحيز والجسم، فإنه لا يصح الاستدلال بالأخفى على الأظهر؛ لأن الدليل مبين للمدلول ومثبت له فلابد أن يكون أبين وأظهر منه‏.‏

الثالث‏:‏ أن من وصفوه بهذه النقائص يمكنهم أن يقولوا نحن نصفه بذلك، ولا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت لله صفات الكمال مع نفي القول بالتجسيم والتحيز، فيكون كلام من يصف الله بصفات الكمال ومن يصفه بصفات النقص واحداً، ويبقى الرد عليهما بطريق واحد وهو أن الإثبات مستلزم للتجسيم والتحيز، وهذا في غاية الفساد والبطلان‏.‏

والرابع‏:‏ أن الذين اعتمدوا في ضابط ما ينفى عن الله على نفي التجسيم والتحيز نفوا عن الله تعالى صفات الكمال بهذه الطريقة‏.‏ واتصاف الله تعالى بصفات الكمال واجب ثابت بالسمع والعقل؛ فيكون كل ما اقتضى نفيه باطلاً بالسمع والعقل، وبه يتبين فساد تلك الطريقة وبطلانها‏.‏

الخامس‏:‏ أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً ونفى غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، وكل من نفى شيئاً واثبت غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن من أثبتوا لله تعلى الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام دون غيرها من الصفات قال لهم نفاة ذلك كالمعتزلة‏:‏ إثبات هذه تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم‏.‏

فيرد عليهم أولئك بأنكم أنتم أثبتم أنه حي، عليم، قدير، وقلتم ليس بجسم مع أنكم لا تعرفون حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فأثبتموه على خلاف ما عرفتم، فكذلك نحن نثبت هذه الصفات ولا نقول إنه جسم فهذا تناقض المعتزلة، أما تناقض خصومهم الذين أثبتوا الصفات السبع السابقة دون غيرها فقد قالوا لمن أثبت صفة الرضا، والغضب، ونحوها‏:‏ إثبات الرضا والغضب، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين ونحوها تجسيم لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم‏.‏

فيرد عليهم المثبتة بأنكم أنتم وصفتموه بالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، ولا يعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فإن لزمنا التجسيم فيما أثبتناه لزمكم فيما أثبتموه، وإن لم يلزمكم فيما أثبتموه لم يلزمنا فيما أثبتناه وإن ألزمتمونا به، لأنه لا فرق بين الأمرين، وتفريقكم بينهما تناقض منكم‏.‏

 فصل

وأما الضابط في باب الإثبات‏:‏ فأن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات الكمال على وجه لا نقص فيه بأي حال من الأحوال لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏‏.‏ والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء‏.‏

فصفات الله تعالى كلها صفات كمال، سواء كانت صفات ثبوت، أم صفات نفي‏.‏ وقد سبق أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى، وأن المقصود بصفات النفي نفي تلك الصفة لا تصافه بكمال ضدها‏.‏

ولهذا لا يصح في ضابط الإثبات أن نعتمد على مجرد الإثبات بلا تشبيه؛ لأنه لو صح ذلك لجاز أن يثبت المفتري لله سبحانه كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن، والبكاء، والجوع، والعطش ونحوها مما ينزه الله عنه مع نفي التشبيه، فيقول‏:‏ إن الله يحزن لا كحزن العباد، ويبكي لا كبكائهم، ويجوع لا كجوعهم، ويعطش لا كعطشهم، ويأكل لا كأكلهم، كما أنه يفرح لا كفرحهم، ويضحك لا كضحكهم، ويتكلم لا ككلامهم‏.‏

ولجاز أيضاً أن يثبت المفتري لله سبحانه أعضاء كثيرة مع نفي التشبيه فيقول‏:‏ إن لله تعالى كبداً لا كأكباد العباد، وأمعاء لا كأمعائهم، ونحو ذلك مما ينزه الله تعالى عنه، كما أن له وجهاً لا كوجوههم، ويدين لا كأيديهم‏.‏

ثم يقول المفتري لمن نفى ذلك وأثبت الفرح، والضحك، والكلام، والوجه، واليدين‏:‏ أي فرق بين ما نفيت وما أثبت، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات؛ فأنا لم أخرج عن هذا الضابط فإني اثبت ذلك بدون تشبيه‏.‏

فإن قال النافي‏:‏ الفرق هو السمع ‏(‏أي الدليل من الكتاب والسنة‏)‏ فما جاء به الدليل أثبته وما لم يجئ به لم أثبته‏.‏

قال المفتري‏:‏ السمع خبر والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه؛ لأنه قد يثبت بدليل آخر، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع، ومن المعلوم أن السمع لم يرد بنفي كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلم يرد بنفي الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش، ونفي الكبد، والمعدة، والأمعاء، وإذا لم يرد بنفيها جاز أن تكون ثابتة في نفس الأمر، فلا يجوز نفيها بلا دليل، وبهذا ينقطع النافي لهذه الصفات حيث اعتمد فيما ينفيه على مجرد نفي التشبيه، ويعلم أنه لا يصح الاعتماد عليها، وإنما الاعتماد على ما دل عليه السمع والعقل من وصف الله تعالى بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، وعلى هذا فكل ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله، فالله منزه عنه؛ لأن ثبوت أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه‏.‏

وبهذا يمكن دفع ما أثبته هذا المفتري لله تعالى من صفات النقص فيقال‏:‏ الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش صفات نقص منافية لكماله فتكون منتفية عن الله، ويقال أيضاً‏:‏ الأكل، والشرب مستلزم للحاجة والحاجة نقص، وما استلزم النقص فهو نقص، ويقال أيضاً، الكبد، والمعدة، والأمعاء آلات الأكل والشرب، والمنزه عن الأكل والشرب منزه عن آلات ذلك‏.‏

وأما الفرح، والضحك، والغضب، ونحوها فهي صفات كمال لا نقص فيها فلا تنتفي عنه لكنها لا تماثل ما يتصف به المخلوق منها فإنه سبحانه لا كفء له، ولا سمي، ولا مثل، فلا يجوز أن تكون حقيقة ذاته كحقيقة شيء من ذوات المخلوقين، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقين؛ لأنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا الآدميين، ولا السموات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الأرض وغير ذلك‏.‏

بل يعلم أن حقيقته على مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، لأن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على الواحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما يجب للأخرى، وامتنع عليها ما يمتنع على الأخرى، فيلزم أن يجوز على الخالق الواجب بنفسه ما يجوز على المخلوق المحدث، وأن يثبت لهذا المخلوق ما يثبت للخالق فيكون الشيء الواجد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وهذا جمع بين النقيضين‏.‏

 فصل‏:‏ الأصل الثاني في القدر والشرع (17)

القدر تقدير لله تعالى لما كان وما يكون أزلاً وأبداً‏.‏

والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان السنة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال‏:‏ ‏(‏أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏ ‏(18)‏‏.‏

والإيمان بالقدر والشرع من تمام الإيمان بربوبية الله تعالى‏.‏

وللإيمان بالقدر مراتب أربع‏:‏

المرتبة الأولى‏:‏ الإيمان بأن الله تعالى قد علم بعلمه الأزلي الأبدي ما كان وما يكون من صغير وكبير، وظاهر وباطن مما يكون من أفعاله، أو أفعال مخلوقاته‏.‏

المرتبة الثانية‏:‏ الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فما من شيء كان أو يكون إلا وهو مكتوب مقدر قبل أن يكون‏.‏

ودليل هاتين المرتبتين في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أما الكتاب‏:‏ فمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 70‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ ‏.‏

وأما السنة‏:‏ فمنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال‏:‏ وعرشه على الماء‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‏.‏

وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء‏)‏‏.‏

وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن أول ما خلق الله القلم فقال‏:‏ اكتب‏.‏ قال‏:‏ رب وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏ وهو حديث حسن‏.‏

المرتبة الثالثة‏:‏ الإيمان بمشيئة الله تعالى وأنها عامة في كل شيء، فما وجد موجود، ولا عدم معدوم من صغير وكبير، وظاهر وباطن في السموات والأرض إلا بمشيئة الله عز وجل سواء كان ذلك من فعله تعالى أم من فعل مخلوقاته‏.‏

المرتبة الرابعة‏:‏ الإيمان بخلق الله تعالى وأنه خالق كل شيء من صغير وكبير، وظاهر وباطن، وأن خلقه شامل لأعيان هذه المخلوقات وصفاتها وما يصدر عنها من أقوال، وأفعال، وآثار‏.‏

ودليل هاتين المرتبتين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62-63‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏‏.‏

ولم يخلق شيئاً إلا بمشيئته؛ لأنه تعالى لا مكره له لكمال ملكه وتمام سلطانه، قال الله تعالى مبيناً أن فعله بمشيئته‏:‏ ‏{‏وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقال مبيناً أن فعل مخلوقاته بمشيئته‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28-29‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

والقدر لا ينافي الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله تعالى أسباباً، فإن الأسباب من قدر الله تعالى، وربط المسببات بأسبابها هو مقتضى الحكمة التي هي من أجل صفات الله عز وجل، والتي أثبتها الله لنفسه في مواضع كثيرة من كتابه‏.‏

فمن الأسباب القدرية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48-50‏]‏‏.‏

ومن الأسباب الشرعية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15-16‏]‏‏.‏ وكل فعل رتب الله عليه عقاباً أو ثواباً فهو من الأسباب الشرعية باعتبار كونه مطلوباً من العبد، ومن الأسباب القدرية باعتبار وقوعه بقضاء الله وقدره‏.‏

والناس في الأسباب طرفان ووسط‏:‏

فالطرف الأول‏:‏ نفاة أنكروا تأثير الأسباب وجعلوها مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها، حتى قالوا‏:‏ إن انكسار الزجاجة بالحجر إذا رميتها به حصل عند الإصابة لا بها‏.‏ وهؤلاء خالفوا السمع، وكابروا الحس، وأنكروا حكمة الله تعالى في ربط المسببات بأسبابها‏.‏

والطرف الثاني‏:‏ غلاة أثبتوا تأثير الأسباب، لكنهم غلوا في ذلك وجعلوها مؤثرة بذاتها، وهؤلاء وقعوا في الشرك، حيث أثبتوا موجداً مع الله تعالى وخالفوا السمع والحس‏.‏ فقد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه لا خالق إلا الله، كما أننا نعلم بالشاهد المحسوس أن الأسباب قد تتخلف عنها مسبباتها بإذن الله، كما في تخلف إحراق النار لإبراهيم الخليل حين ألقي فيها فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ فكانت برداً وسلاماً عليه ولم يحترق بها‏.‏

وأما الوسط‏:‏ فهم الذين هدوا إلى الحق وتوسطوا بين الفريقين وأخذوا بما مع كل واحد منهما من الحق، فأثبتوا للأسباب تأثيراً في مسبباتها لكن لا بذاتها بل بما أودعه الله تعالى فيها من القوى الموجبة‏.‏

وهؤلاء هم الطائفة الوسط الذين وفقوا للصواب وجمعوا بين المنقول والمعقول، والمحسوس، وإذا كان القدر لا ينافي الأسباب الكونية والشرعية فهو لا ينافي أن يكون للعبد إرادة وقدرة يكون بهما فعله، فهو مريد قادر فاعل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

لكنه غير مستقل بإرادته وقدرته وفعله، كما لا تستقل الأسباب بالتأثير في مسبباتها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28-29‏]‏‏.‏ ولأن إرادته وقدرته وفعله من صفاته وهو مخلوق، فتكون هذه الصفات مخلوقة أيضاً، لأن الصفات تابعة للموصوف، فخالق الأعيان خالق لأوصافها‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ أفلا يصح على هذا التقرير أن يحتج بالقدر من خالف الشرع‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع لا يصح كما دل على ذلك الكتاب والسنة والنظر‏.‏

أما الكتاب‏:‏ فمن أدلته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ فأبطل الله حجتهم هذه بقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏ ومنها قوله‏:‏ ‏{‏رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فبين الله تعالى أن الحجة قامت على الناس بإرسال الرسل، ولا حجة لهم على الله بعد ذلك، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل‏.‏

وأما السنة‏:‏ فمن أدلتها ما ثبت في الصحيحين ‏(19)‏ عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة‏.‏ ثم قرأ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5-10‏]‏ ‏)‏‏.‏

وأما النظر فمن أدلته‏:‏

1- أن تارك الواجب وفاعل المحرم يقدم على ذلك باختياره لا يشعر أن أحداً أكرهه عليه، ولا يعلم أن ذلك مقدر؛ لأن القدر سر مكتوم فلا يعلم أحد أن شيئاً ما قدره الله تعالى إلا بعد وقوعه، فكيف يصح أن يحتج بحجة لا يعلمها قبل إقدامه على ما اعتذر بها عنه‏؟‏‏!‏‏!‏

ولماذا لم يقدر أن الله تعالى كتبه من أهل السعادة، فيعمل بعملهم، دون أن يقدر أن الله كتبه من أهل الشقاوة، ويعمل بعملهم‏؟‏‏!‏

2- أن إقحام النفس في مآثم ترك الواجب وفعل المحرم ظلم لها وعدوان عليها، كما قال الله تعالى عن المكذبين للرسل‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ولو أن أحداً ظلم المحتج بالقدر على مخالفته، ثم قال له‏:‏ ظلمي إياك كان بقدر الله‏.‏ لم يقبل منه هذه الحجة، فكيف لا يقبل هذه الحجة بظلم غيره له، ثم يحتج بها بظلمه هو لنفسه‏؟‏‏!‏

3- أن هذا المحتج لو خير في السفر بين بلدين أحدهما‏:‏ بلد آمن مطمئن فيه أنواع المآكل، والمشارب، والتنعم، والثاني‏:‏ بلد خائف قلق، فيه أنواع البؤس، والشقاء، لاختار السفر إلى البلد الأول ولا يمكن أن يختار الثاني محتجاً بالقدر، فلماذا يختار الأفضل في مقر الدنيا، ولا يختاره في مقر الآخرة‏؟‏‏!‏

فإن قال قائل‏:‏ ما الجواب عن قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 106-107‏]‏‏.‏ فأخبر أن شركهم واقع بمشيئة الله تعالى‏!‏‏.‏

قيل له‏:‏ الجواب عنه‏:‏ أن الله تعالى أخبر أن شركهم واقع بمشيئته تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم لا دفاعاً عنهم، وإقامة للعذر لهم، بخلاف احتجاج المشركين على شركهم بمشيئة الله، فإنما قصدوا به دفع اللوم عنهم وإقامة العذر على استمرارهم على الشرك؛ ولهذا أبطل الله احتجاجهم ولم يبطل أن شركهم واقع بمشيئته‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ما الجواب عما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏احتج آدم وموسى – وفي لفظ‏:‏ تحاج آدم وموسى – فقال موسى‏:‏ يا آدم أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة‏.‏ فقال له آدم‏:‏ أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثاً‏)‏ ‏(20)‏‏.‏ وعند أحمد ‏(21)‏‏:‏ ‏"‏فحجه آدم‏"‏‏.‏ أي غلبه في الحجة‏؟‏‏.‏

قيل له‏:‏ الجواب من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن احتجاج آدم بالقدر كان على المصيبة التي حصلت عليه وهي إخراجه وزوجه من الجنة، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن ليعتب على آدم في معصية تاب منها إلى الله تعالى فاجتباه ربه وتاب عليه وهدى، فإن هذا بعيد جداً أن يقع من موسى عليه الصلاة والسلام وهو أجل قدراً من أن يلوم أباه ويعتب عليه في هذا، وإنما عنى بذلك المصيبة التي حصلت لآدم وبنيه وهي الإخراج من الجنة الذي قدره الله عليه بسبب المعصية، فاحتج آدم على ذلك بالقدر من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب، لا على المعايب فهو كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏ رواه مسلم ‏(22)‏‏.‏

فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفويض الأمر إلى قدر الله بعد فعل الأسباب التي يحصل بها المطلوب ثم يتخلف‏.‏

ونظير هذا أن يسافر شخص فيصاب بحادث في سفره فيقال له‏:‏ لماذا تسافر‏؟‏ فيقول‏:‏ هذا أمر مقدر والمقدر لا مفر منه، فإنه لا يحتج هنا بالقدر على السفر لأنه يعلم أنه لا مكره له وأنه لم يسافر ليصيبه الحادث، وإنما يحتج بالقدر على المصيبة التي ارتبطت به، وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ المؤلف في هذه العقيدة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن الاحتجاج بالقدر على ترك الواجب، أو فعل المحرم بعد التوبة جائز مقبول، لأن الأثر المترتب على ذلك قد زال بالتوبة فانمحى به توجه اللوم على المخالفة، فلم يبق إلا محض القدر الذي احتج به لا ليستمر على ترك الواجب، أو فعل المحظور ولكن تفويضاً إلى قدر الله تعالى الذي لابد من وقوعه‏.‏

وقد أشار إلى هذا ابن القيم في – شفاء العليل ‏(23)‏ – وقال إنه لم يدفع بالقدر حقاً ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضوع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العز على أن لا يعود‏.‏

ونكتة المسألة‏:‏ أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلاً فقال‏:‏ ‏(‏ألا تصليان‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ وأجاب عنه بأن احتجاج علي صحيح ولذلك لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يعذر فيه؛ فالنائم غير مفرط، واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح‏.‏